في مارس الماضي، نشر المصوّر الرسمي لإيمانويل ماكرون صوراً لافتة بالأبيض والأسود للرئيس الفرنسي، وهو يوجّه لكمة لكيس ملاكمة ثقيل، بدا فيها كاشراً عن أسنانه وبعضلات ذراع منتفخة. الصورة التي أظهرها ماكرون، صورة الصلابة والتصميم، كانت تتناغم مع تصميمه الشديد على ضرورة حشد الأوروبيين المنقسمين ضد الحرب روسيا الدموية في أوكرانيا. 
الصور نفسها كانت مثار جدل -- إذ أثارت إعجاب بعضهم وسخرية بعضهم الآخر، غير أن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي جدية تحليل الرئيس فيما يتعلق بأوروبا، والذي عزّزه خطابٌ قوي دام ساعتين الشهر الماضي حذّر فيه من أن القارة باتت تواجه تهديداً وجودياً مرده الحرب في أوكرانيا، والانسحاب الأميركي، وحالة السبات الاقتصادي وتصاعد النزعة الشعبوية المناهضة لليبرالية في أوروبا نفسها. 

المشكلة في رؤية ماكرون ليست الرسالة التي يحملها، والتي تنم عن تبصر وقدر كبير من الجدية، وإنما في حامل الرسالة.
وبعد 7 سنوات في السلطة، اتسعت الهوة بين طموحات ماكرون النبيلة وصلاحياته المحدودة.
الرئيس الفرنسي يُعد من أكبر المدافعين عن الاندماج الأوروبي والتنسيق في مجالات الدفاع والتمويل والعلوم ومكافحة تغير المناخ، غير أنه لم يقوي علاقاته مع المستشار الألماني أولاف شولتز، وآخر مثال على ذلك دعوة ماكرون لأوروبا -- من دون تشاور -- إلى بحث إمكانية إرسال قوات إلى أوكرانيا. والنتيجة أن العلاقات بين أقوى دولتين في أوروبا متوترة بسبب الخلافات وحالة الجمود. وفي الوقت نفسه، كانت فرنسا عموماً من البلدان البطيئة في تقديم مساعدات عسكرية شاملة لكييف، رغم إرسالها بعض المعدات المهمة.
ماكرون حذّر من أن أوروبا تواجه «نقطة تحوّل» نتيجة لتحديات تفرضها روسيا والصين، ولتراجع اهتمام واشنطن بأمن القارة، وساق حجة قوية مفادها أن أوروبا نفسها، بثروة جماعية تفوق ثروة الولايات المتحدة، يجب أن تتحمل حصة الأسد من المسؤولية عن أمنها. بيد أن فرنسا أخذت الآن فقط تقترب من هدف الإنفاق السنوي على الدفاع الذي حدّدته منظمة حلف شمال الأطلسي قبل قرابة عقدين، علماً أن هذا المعيار، الذي يعادل 2 في المئة من إجمالي الناتج الاقتصادي، أصبح قديماً ومتجاوَزاً الآن بالنظر إلى حرب أوكرانيا وخطط الناتو الجديدة من أجل وقف الهجمات الروسية المحتملة على الخاصرة الشرقية الضعيفة للحلف. 

قوة رسالة ماكرون تتضرر أيضاً بحقيقة أن حدّتها تصاعدت بالتوازي مع تزايد متاعبه السياسية الخاصة، وائتلافه الوسطي فقد أغلبيته في «الجمعية الوطنية». كما أن كتلته السياسية المعتدلة أصبحت متأخرة عن الشعبويين المناوئين للمهاجرين بقرابة 2 لـ1 تقريباً عشية انتخابات البرلمان الأوروبي الشهر المقبل. وهؤلاء هم الشعبويون أنفسهم -- المعادون للمسلمين، والوطنيون المتعصبون، وفي بعض الحالات المتعاطفون مع روسيا -- الذين يعتقد ماكرون عن حق أنهم يشكّلون تهديداً للقيم الأوروبية الأساسية: التسامح والسلام والحرية
ومما يفاقم كل هذه المشاكل الاقتصاد الفرنسي، الذي يُعد ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو بعد الاقتصاد الألماني ولكنه يواجه أزمة سيولة وسط تضخم الديون والعجز.
وحتى في الوقت الذي يدفع فيه ماكرون، وهو في ولايته الثانية والأخيرة، نحو مزيد من الاقتراض الدفاعي الأوروبي المشترك، حذّر كبير مدققي الحسابات العامة في فرنسا مؤخراً من أن خدمة الدين الفرنسي تضاعفت خلال السنوات الثلاث الماضية. وقال مدقق الحسابات إنها ستتجاوز ما تنفقه البلاد على التعليم أو الجيش بحلول 2027 من دون تغييرات كبيرة. وهذا يعني أن فرنسا ستحتاج إلى خفض الإنفاق بعشرات المليارات من الدولارات من أجل تحقيق أهداف العجز في السنوات القليلة المقبلة، حتى في الوقت الذي تسعى فيه لتعبئة تمويلات من أجل مساعدة أوكرانيا، وتعزيز صناعتها الدفاعية، ومكافحة تغير المناخ. المشكلة ليست في أن أفكار ماكرون تفتقر إلى الأهمية، وإنما في أنه في هذه المرحلة من رئاسته – التي صعد فيها خصومه -- أصبحت كلماته لا تعدو أن تكون مجرد ضربة غير مؤثّرة في المعركة حول مستقبل أوروبا.*صحافي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»